في ليله صيفيه أطل فيها القمر بدراً وتلئلئة النجوم بأعداد لم تعهدها عيناي.. تسللت بهدوء إلى الحقول الخضراء أجري ونسمات هواء عليل منعش برائحة الزهور تداعب وجهي وتطفئ لهيب دموعي الساخنه.. لاأعــرف كيف استطاعت قدماي الوصول إلى شاطئ البحر البعيد.. وقفت أنظر للأمواج وهيه تسرع الخطى لتنكسر على الرمال مراراً وتكراراً.. سمفونيه أبديه على مسرح الحياة .. أخلع حذائي..أدفن قدمي في الرمل البارد.. أجري بأقصى سرعة.. كمن يهرب من خطر محدق.. فجأة أسقط على ركبتي وأنا ألهث.. يتسلل رذاذ البحر المالح إلى فمي..أطمر نفسي بالرمل الحي.. تناهى إلى مسمعي صوت قريب من الهمس يردد "ياابنتي أي جنون حملك للخروج في هذا الوقت".. التفت إلى وراء وإذا بي أرى خيالاً أسود يقف خلفي.. إمرأة عجوز.. ابتسمت بمرارة وقلت " اليوم انقشع الضباب عن عيني وأبصرت الحياة على حقيقتها".. جلست بجانبي تحدق في الأفق البعيد.. ومن ثم دار بيننا هذا الــحوار..
العجوز: مـــاذا يمكن لفتاة في عمر الزهور أن تبصر؟
الشيء الكثير.. آآآآه لاأعرف من أين أبدأ.. أصمت لبرهه.. نأتي لهذا العالم وتقدم لنا الحياة مساحة خاصه بنا على شاطئ بحرها الكبير.. إلا أننا معظم الوقت نجد أنفسنا وحيدين في صراعنا مع أعاصيرها التي تكاد تغرقنا.. حقاً عالم عجيب غريب..ننمو ونكبر ونحمل من المشاعر ويحمل الآخرون مشاعراً على اختلافها.. تمر بنا الأيام والسنين ونحن لانزال نجري وراء سراب السعاده الأبدية..
العجوز: ولكـــن هكذا هيه الحياة عزيزتي.. فتــارة تطل علينا شمسها الدافئة وتارة أخرى نجد أنفسنا عالقين في إحدى قيعانها المظلمة..
لاأدري ما الذي أصابني وغير العالم من حولي.. معظم من أحببتهم رحلوا بعيداً عني في غياهيب الحياة.. لم أستطع أن أحظى بلحظة وداع.. فأحزن وأبكي بصمت وأنا أحتضن بقاياهم وذكرياتي القديمة..
العجوز: وهل هيه مؤلمة لهذه الدرجة التي تجعلني أرى تلك الآلئ وهيه تخرج من عينيك..
أنظـر إليها في شجن وأردد لا بل هو الحنين إليهم يشدني بقوة كسمكة علقة في صنارة صياد..كصحراء تشتاق إلى قطرات مطر لتروي عطشها.. أتمنى لو أستطيع أن أعود طفــلة.. تجري خلف الفراشات وتضحك مع الطيور.. ترى كل شيء حولها بمنظار وردي حالم ولاشيء آخر يعكر صفاء الجو..
العجوز: ياابنتي مرحلة الشباب هيه أجمل سنوات العمر.. فيه يستطيع المرء أن يفرد جناحيه ويحلق بحرية في فضاء واسع ليحقق كل تلك الأحلام والأمنيات..
وفيه يصدم بوجه الحياة الآخر.. فيكتشف أن البشــر أصنــاف عديدة.. منهم من يخفي بشاعته وقبحه تحت أقنعة الطيبه والصدق.. ومنهم من يتحين الفرص ليطعننا بخنجر الغدر حتى تكاد أرواحنا تعانق السماء.. ومنهم من يظل يردد على مسامعنا أخطاء إرتكبناها في الماضي بجهل أو غير قصد منا حتى يصبح وجودهم عبئاً نتمنى الخلاص منه.. ومنهم من يطرقون أبوابنا بلا موعد.. ومع مرور الوقت نحبهم ولانستطيع تخيل الحياة بدونهم إلا أنهم في نهاية المطاف يرحلون كما جاءوا فجأة.. وهؤلاء نحزن ونبكي عليهم أكثر ونأخذ من الزمن دهراً لكي ننساهم.. لأنهم وبدون أن نشعر سكنوا في أعماق قلوبنا.. عمق لم يصله غير قله من الناس..
العجوز: إن البشر مختلفون .. كاختلاف كأصابع اليد الواحدة فمحال أن تكون جميع الأصابع متساويه في الطول..
أجل مثل اختلاف حياتنا.. هيه قطار مليء بالمفاجآت بل أن حياتنا قطار مفاجآت.. قطار حياتي كأي قطار آخر.. يسير على قضبان الحياة تارة يكون سريعاً وتارة أخرى يتحرك ببطئ.. ومن حين لآخر يتوقف في المحطات.. محطة حــزن.. محطة وداع.. محطة فرح وغيرها.. لقد سئمت كل شيء.. أنا وحيدة.. وحيدة كالموت..قلبي مشبع بأملاح الأحزان.. تائه في ضباب الظلام وغارق في فيضان النسيان..إني كمصباح الطريق أبكي ولاأحد يرى دمعاتي..كل يوم يمر أحترق كالشمعه ببطئ ولاأحد يشعر بي.. أتراني سأجد السعادة يوماً أم سأظل رماد أنثى على ضفاف هامش الحياة..
العجوز: عندما نكون سعداء فعلاً لايخطر لنا أن نتساءل إن كنا كذلك أم لا ، السعادة تصبح جزء منا.. إنك لاتتساءلين إن كانت يدك في مكانها أم لا.. نحن نتحسس الأشياء عندما نشك في وجودها.. أخبريني ماذا تتمنين؟.
ابتسم ابتسامه تائه.. أنا لاأطلب الشيء الكثير.. أريد أن تعود إلي ابتسامتي وضحكتي.. أريد أن ألتقي على رصيف عمري بمن أعتبرهن صديقات..صداقة حقيقية..ليست صداقة مصالح أو صداقة تنتهي بتفرق الأماكن وننتهي أغراب..فأصدم ويدمي قلبي حزناً على ماكان بيننا..
العجوز: لاشيء يماثل الصداقة الحقيقة..فمهما مضت الايام
ومهما فرقتنا المساحات..لاتتغير المشاعر بل تزيد عمقا وتوهجاً..
لكن مجتمعاتنا لاتعترف بوجود المشاعر بل وتقمعها بحجة أنها تتعارض مع ثقافته.. لقد سمينا بشراً لأن لدينا روح وأحاسيس وليس قوالب ثلجيه أليس كذلك؟.. إذا تساقطت دموعنا إعتبروها ضعفاً.. إذا غضبنا ودافعنا عن حقوقنا إعتبرونا متمردين.. لماذا لانستطيع أن نعيش حياة لانكون فيها إلا ذاتنا بعيداً عن قيود عفا عليها الزمن تفرضها علينا شرائع الانسان..
العجوز: عزيزتي مجتمعنا شرقي بحت.. يرفض التغيير وكل شيء جديد.. مفهوم القوه لديه في أن يغلق الفرد كل أبواب العاطفه بسلاسل وأغلال من حديد وإلا أعتبر ضعيف الشخصيه وبتالي تسلب منه عباءة الهيبه ويعامل باحتقار..مواطن من الدرجة الثانية.. إن الفرد عندنا يعيش في صراع دائم بين مايجب عليه أن يكون وبين مايريد أن يكون..
خالص تحياتي لكم _- جنون الغلا -_